الجمعة، 16 مايو 2008

العبداللات

جرى ذكر المطرب الأردني عمر العبداللات في مجلس، ولم يكن من أثار القول حوله مهتمًا بفن عمر أو أدائه بل أثاره اسم أسرته (العبداللات)، فهو يرى أن التسمي بهذه الطريقة مصادمة لتعاليم الإسلام، فالعبادة لا تكون إلا لله وحده، ولا يجوز أن تنصرف إلى اسم صنم هو اللات أو العزى ولا يصح أن يضاف لفظ عبد إلا إلى اسم من أسماء الله أو صفة من صفاته، وقال كيف يفعل الأردنيون ذلك وهم مسلمون، وحاولت أن أشرح له ما استطعت أن (العبد اللات) بتفخيم اللام يختلف عن (اللات) بترقيق اللام، وأنه ليس من قبيل إضافة (عبد) إلى (اللات) بل هو مضاف إلى (الله)، فاسم العائلة (العبد اللات) هو جمع بالألف والتاء للاسم المفرد (العبدالله)، أي الأسرة الموصوفة بأن جدها اسمه عبدالله، كما نقول في نجد (العبداللطيف) و(العبدالقادر)، ومن الواضح أن هذا الرجل (العبدالله) تفرعت أسرته حتى تعددت فروعها كل فرع منها ينتهي بالاسم (العبدالله)، فلما أريد التعبير عن الأصل الجامع لهذا التجمع الأسري جمع اسم الجد الأول، وهذه الطريقة من التسمي بالجمع طريقة متبعة في الأردن؛ إذ تنتهي أسماء بعض الأسر الكبيرة بصيغة الجمع بأشكاله المختلفة فمنها ما جمع على صيغة جمع التكسير، مثل: السعافين (المفرد سعفان)، المحادين (المفرد محدان)، المدادحه (المفرد مدّاح)، الجلامدة (المفرد جلمود)، العثامنة (المفرد عثمان)، النواصره (المفرد ناصر)، الجهامنة (المفرد جهيمان)، المجالية (مجالي)، العناقرة (عنقري)، الخواطرة واحدهم خاطري، الدراوشة واحدهم ابن درويش، السكاتين واحدهم ابن سكيتان، القطون واحدهم ابن قطن، الخلايفة واحدهم خليفي، الطلاحين واحدهم ابن طليحان، القواظمة واحدهم أبو قاظوم، الهواشلة واحدهم ابن هويشل. ومنها ما جمع بألف وتاء، مثل: العبيسات (المفرد عبيس)، الحويطات (المفرد حويطي)، المهيرات (المفرد مهير)، المسيلات (المفرد مسيلة)، الحمدات (المفرد حمد)، الحميدات (المفرد حميد). الفريجات الرويضات واحدهم ابن رويضي، القريات واحدهم قرياوي.
ومن الأسر في المملكة من ينتهي بجمع بألف وتاء مثل (الشويخات) و(المفرد شويخ). وأسماء القبائل تجمع في المملكة وإن لم يتسم بها مجموعة، منها السبعان أي المنسوبين لقبيلة سبيع والعنوز لقبيلة عنزة، والعصمة والعصمان جمع العصيمي، والحروب لقبيلة حرب، والشمامرة لقبيلة شمر، والقحاطين لقبيلة قحطان، وأسماء الأسر تجمع كذلك، منها: الرواجح واحدها الراجحي، السباهين واحدها السبهان، السحابين واحدها السحيباني، البواريد واحدها البواردي. والتنابيك والمفرد تنباك، والصواوين والمفرد صويويني، والمناديل والمفرد منديل.
والذي ننتهي إليه أنه ليس من خطأ في اسم (عمر العبداللات)، وإنما الخطأ في معالجة أمور لا خبرة للإنسان بها.
ـــــــــــــــ
نشر في المجلة الثقافية (صحيفة الجزيرة)الإثنين 29 ربيع الآخر1429ﻫ، ع246.

مصيدة المشترك اللغوي

الأصل في استعمال اللغة أن يكون للمعنى لفظ لا يشاركه فيه معنى آخر مختلف عنه كل الاختلاف؛ ولكن اللغة ليست عقلاً بل لها من المنطق ما يخالف المنطق الرياضي فقد تجري استعمالاتها على خلاف الأصول المفترضة لأسباب مختلفة، ومن أمثلة المعنيين يشتركان بلفظ واحد دلالة الفعل (قال) الدال على القول والدال على القيلولة ظهرًا، وأما (الخال) فهو أخ الأم وهو نقطة سواء في الوجه. وربما استغلت إمكانية الاشتراك اللغوي في الألغاز والطرائف، ومن هذه الألغاز:
إنَّ هندُ المليحةُ الحسناءَ وأْيَ مَنْ أضْمرَتْ لخِلٍّ وفاءا
فالسامع يعجب كيف ترفع (إنَّ) الاسم بعدها (هندُ) فإذا عرف اللغز تبين له الاشتراك اللغوي بين (إنَّ) الحرف و(إنَّ) الذي هو فعل أمر مؤكد بنون التوكيد من المصدر (وأي) أي وعد، فالمضارع منه (يئي) والأمر للمخاطبة (إي) والمؤكد بالنون تحذف منه الياء فيكون (إنَّ)، وأما هند فضم للنداء والمليحة رفع متابعة للفظ المنادى والحسناء نصب لأنه نعت للمنادى فنصب رعاية لموقع النصب. ومن الطرائف أن أم كلثوم قالت للسنباطي: إنتَ ليش ما بتلحن لفريد الأطرش؟ فقال: أنا ما بتلاءمش معاه، فقالت: هوّ أنت لازم تتلائم مع كل الناس. والمصريون بعامة ذوو بديهة وخاطرة سريعة وعجيبة فكأنهم مجبولون على الفكاهة وربما يسمون هذا بالأفية أي القافية أي ما يلحق اللفظ من طرفة منتهزة لاذعة أحيانًا. ويقال إن أهل عيون الجواء في القصيم أهل طرفة تعتمد على الاشتراك اللغوي، من ذلك أن أحدهم جلب بعيرًا إلى بريدة فوقف أحدهم عنده وهو لا يريد الشراء بل الثرثرة وصاحب البعير يدرك ذلك، فلما سأله: البعيركم هو عليه؟ (أي كم ثمنه) قال: على أربع.(أي أربع قوائم)، فرد الرجل: أقول لك وشوّ عليه؟، فقال: على الارض. فغضب الرجل من سخريته وشك أنه من أهل العيون فسأله: أنت عيوني؟ فقال: لا، عيونك في راسك. والتورية باب بلاغي يستغل المشترك اللفظي، ومن ذلك ما قاله شوقي معرضًا بحافظ إبراهيم:
وأودعت إنسانًا وكلبًا أمانة فضيعها الإنسان والكلب حافظ
وقال حافظ في شوقي:
يقولون إن الشوق نار ولوعة فما بال شوقي اليوم بارد
وكنت كتبت في هذه المجلة مداخلة عن (ليت شعري) وكان مما جاء فيها، "والطريف أن يستعمل عنوانًا لكتاب (ليت نثري: كلمات لها قضية تربوية وما أتت من فراغ كتبه: علي محمد العيسى، نشر في (1417ﻫ1996م)."، والشاعر له (ليت شعري) وهو ديوان رائع كله حكمة ويمتاز بأن الشاعر يختمه ببيت صدره تفاعيل، فقصيدة (حديث الصمت) ختمها بقوله:
مستفعلن مستفعلن مستفعلن بك يا رفيقي حالة مما بي
فهل يريد الشاعر أن يقول إن الشعر الذي صار فعله ونفعه متعذرًا مستحيلاً حتى أدخل في الرجاء (ليت شعري) قد فُرّغت ألفاظه من مضموناتها فلم يبق سوى صورة اللحن المتمثل في التفاعيل وحدها.
إن الشاعر الفحل الذي يجترح المعاني ويبتكر الدلالات لم يقل مقالة الفرزدق علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا؛ فحين قرأ شاعرنا ما كتبته كان من كرمه أن بحث عن هاتفي وتلطف بالسلام وبدأ بمناقشتي في ما كتبت، وكنت كتبت ما كتبت دون اطلاع على أعماله، وهو تقصير مني لست أدفعه، ثم بين لي أن (ليت شعري) التي أرادها تختلف عن استعمال القدماء وإن شاركتها اللفظ، وعند ذلك أدركت أني وقعت في مصيدة المشترك اللفظي، والحق أن ما أشار إليه كان قد عنّ على خاطري ولكني دافعته مأخوذًا بسَورة التصحيح. شرح الشاعر في بداية ديوانه جملة (ليت شعري)، فبين أن الشعراء ربما بلغت بهم الأزمة مبلغًا يقصر الشعر عن وصفها "قالوا بحرقة وألم واستنجاد: ليت شعري. ليته يسعفني لأقول، وليوصل المراد إلى المتلقي كما أريد بكل معناه ومغزاه ومرماه...
فـ...ليت شعري، ليت شعري
ليته يُجـــدي ويُثْــري
ليته يلقـــى صـــداه
ليته يُغـــري فيُسْــري"
(ديوان ليت شعري،ص8-9)
نعم قد تتزاحم في النفس المعاني حتى تعجز الآلة عن ترجمتها لفظًا مؤثرًا ولا عجب أن يستعين الشاعر أو المتحدث بكل جوارحه ليوصل رسالته، ولعل ما يصاب به الإنسان من حبسة أو لجلجة إنما مردها إحساس تعاظم الفكرة وتخاذل الآلة المترجمة عن تلك الفكرة، فإن بلغ اليأس منه مبلغه قال ليت شعري وليت نثري، وإن من حق المحْدث أن يُفرغ في اللفظ معنى جديدًا يخدم غرضه، وهو أمر تزخر به اللغة عبر عصورها المختلفة.
ــــــــــــــــ
نشر في المجلة الثقافية(صحيفة الجزيرة) 7جمادى الأولى 1429ﻫ، ع247.

رحمه الله

قال لي أستاذنا القدير الدكتور عبدالله الغذامي، وفقه الله إلى كل خير، إن من الناس من ينكر استعمال (رحمه الله) بصيغة الفعل الماضي فتراه ينصح غيره بأن يستعمل الفعل المضارع (يرحمه الله) بدعوى أن الفعل الماضي إنما يستعمل لما مضى، والفعل المضارع يستعمل للمستقبل، والرحمة من الله لعبده أمر مستقبل بيده سبحانه وتعالى، وليس لأحد أن يعبر بالماضي وهو لا يعلم عن حدوث الرحمة. وكان أستاذنا يستغرب هذا القول. وبيّن لي أنّ الناس هم أنفسهم يستعملون الفعل (رضي) وهو فعل ماضٍ، وقال إنّ استعمالهم للفعل الماضي في لغة الخطاب اليومي كثيرة، يستعملونه وهم لا يريدون انقضاء الفعل؛ بل يريدون العزم على تحقيقه عزمًا جعله كالمنقضي؛ فالواحد منهم يقول لصاحبه يحثه على المضي: "مشينا"، أي لنمشِ أو "أمشِ"، فصار الماضي بهذا السياق مرادًا به الأمر، والأمر إنما يكون لما يحدث في المستقبل.
وما قاله الأستاذ حق فالفعل الماضي قد ينتقل من دلالته الإخبارية على حدوث الفعل التي يحتمل بها الصدق أوالكذب، إلى دلالة إنشائية، هي الدعاء، لا يحتمل بها الصدق أو الكذب، كما في قولنا: (رحمه الله، غفر الله له، وأسكنه فسيح جناته، وتغمده برحمته) ونقول في رسائلنا وخطاباتنا: (حفظه الله)؛ ولذلك يصح أن نقول: المرحوم، والمغفور له، ولا حاجة إلى الاشتراط كما يفعل بعض الناس في قوله: المغفور له بإذن الله، كما في عنوان مقال "رؤية المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد لقضية الجزر الإماراتية الثلاث". وأقول لا حاجة إلى الاشتراط لأن الغافر هو الله ولا يحتاج تبارك وتعالى إلى إذن.
وقد استعمل الفعل الماضي في القرآن الكريم للدعاء فصارت الدلالة على المستقبل قال تعالى ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾[التوبة:30]. جاء في فتح القدير - (ج 7 / ص 227) "وقد تقول العرب هذه الكلمة على طريقة التعجب، كقولهم : قاتله الله من شاعر، أو ما أشعره، وليس بمراد هنا، بل المراد ذمهم وتوبيخهم، وهو طلب من الله سبحانه طلبه من ذاته - عزّ وجلّ - أن يلعنهم ويخزيهم، أو هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا ذلك". وذكر ابن فارس في (الصاحبي،ص353) أن من سنن العرب إقامة الكلمة مقامَ الكلمة؛ فيقيمون الفعلَ الماضي مقامَ الراهن. ومن استعمال الماضي للدعاء قول مروان بن أبي حَفْصة:‏
سقى الله نجدًا والسلام على نجد ويا حَبَّذا نَجدٌ على القُرْب والبُعْد‏
ولما كان الماضي بمعنى الدعاء الطلبي كان من شأنه أن يُربط بالفاء إن كان جواب شرط، كما في شاهد سيبويه الذي ورد في خزانة الأدب للبغدادي:
إذا ابن أبي موسى بلالاً بلغته فقام بفأس بين وصليك جازر
قال البغدادي: "وقوله فقام بفأس هو جواب إذا. ودخلت الفاء على الفعل الماضي لأنه دعاء، كما تقول: إن أعطيتني فجزاك الله خيرًا؛ ولو كان خبرًا لم تدخل عليه الفاء".
فليس علينا بأس أن ندعو بقولنا (رحمه الله) و(غفر له) وأن نقول (المرحوم) و(المغفور له).
ــــــــــــــــ
نشر في المجلة الثقافية (صحيفة الجزيرة) يوم الإثنين15 ربيع الآخر1429ﻫ، ع 244