الخميس، 28 فبراير 2008

*التنمية المُستدامة


شاع استعمال (المستدامة) كما في (مؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة)، وفي موسوعة وكيبيديا "التنمية المستدامة (Sustainable Development) هي عملية تطوير الأرض والمدن والمجتمعات وكذلك الأعمال التجارية بشرط أن تلبي احتياجات الحاضر بدون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية حاجاتها. ويواجه العالم خطورة التدهور البيئي الذي يجب التغلب عليه مع عدم التخلي عن حاجات التنمية الاقتصادية وكذلك المساواة والعدل الاجتماعي".
والمستدامة مؤنث المستدام، واشتق اسم المفعول هذا من الفعل (استدام)، وإنما تعتمد صحة هذا الاشتقاق على المراد بالفعل وعلى معنى الصيغة، فإن كان المقصود بالمُستدامة المُستمرة، أي إن الصيغة دالة على الصيرورة (صارت دائمة)، فالاشتقاق غير صحيح؛ لأن الفعل بهذا المعنى لازم لا يكون منه اسم مفعول، وإن كنا نقصدُ المتأنى بها المنتظرَ دوامُها أو المراد دوامها، أي إن الصيغة دالة على الطلب، فالاشتقاق صحيح؛ لأن الفعل متعدٍ فيكون منه اسم المفعول، وقد استُعمل هذا الفعل في العربية بهذا المعنى متعديًا فجاء منه اسم الفاعل واسم المفعول. جاء في معجم (العين) "واستِدامةُ الأمر: الأَناةُ فيه والنَّظَر، قال:
فلا تعجَلْ بأمرِكَ واستَدِمه *** فما صَلَّى عصاكَ كمُستَديمِ
وتَصلِيةُ العَصَا: إِدارتُها على النار لتستقيم، أي ما قَوَّمَ أمرك كالتَّأَني". فأنت تراه عدّى فعل الأمر إلى الضمير وتراه اشتق اسم الفاعل. وجاء في (لسان العرب): "وأَدامَهُ واسْتَدامَهُ: تأَنَّى فيه، وقيل: طلب دوَامَهُ، وأَدْومَهُ كذلك. واسْتَدَمْتُ الأمر إذا تأَنَّيْت فيه؛ وأنشد الجوهري للمَجْنون واسمه قَيسُ بن مُعاذٍ:
وإنِّي على لَيْلى لَزارٍ، وإنَّني، *** على ذاكَ فيما بَيْنَنا، مُسْتَدِيمُها
أي منتظر أن تُعْتِبَني بخير".
وقال محمد الهمداني:
يا شارعًا في أمة جعلت به *** وسطًا فغالت مستدام حياتها
وقال صالح النفري:
بسعدك يا محمد عز دين *** وغِب السلم نصر مستدام
وقال عبدالله بن عمر الأنصاري:
ولدار الحديث عهد قديم *** مستجد على البلى مستدام
ومن استعمال (مستدامة) في النصوص القديمة ما نقله القيرواني في (زهر الآداب) من نثر أبي الفضل الميكالي يتحدث عن النعمة، قال: "حتى استقرّت في نِصَابها، وألقتْ عِصيَّ اغترابها، فهي للنماء والزيادة مترشحة، وبالعز والسعادة متوشحة، وبالأدعية الصالحة مستدامة مرتَهنَة، وباتفاق الكلمةِ والأهواء عليها مرتبطة محصنة".
ــــــــــــ
المجلة الثقافية (صحيفة الجزيرة) الإثنين 18 ,صفر 1429ﻫ،العدد 235.

*ذوالرمة أبالكسرة راؤه أم بالضمة



جرى ذكر الشاعر غيلان بن عقبة في مجلس بحث فاختلف في لقبه فذهب قوم إلى أنه (ذو الرُّمة) بضم الراء، وأكد أحد الفضلاء أنه بكسر الراء، وقال آخر إنه بهما أي يلقب بضم الراء أو كسرها. واللغويون يفرقون بين لفظين (الرُّمة) بضم الراء، و(الرِّمة) بكسرها. قال ابن دريد في (الاشتقاق) "والرُّمَة: القطعة من الحبل. والرِّمَّة: ما رمَّ من العِظام". وجاء في معجم (الصحاح) للجوهري:"والرُمَّةُ: قطعةٌ من الحبل باليةٌ، والجمع رُمَمٌ ورِمامٌ. ومنه قولهم: دفَعَ إليه الشيءَ بِرُمَّتِهِ ... والرِمَّةُ بالكسر: العظام البالية". ولم أر - في حدّ معرفتي- من ضبط لقب الشاعر بكسر الراء. ولعل من ذهب إلى أنه يضم ويكسر استفاده من معجم (القاموس المحيط):"و[رمَّ] العَظْمُ يَرِمُّ رِمَّةً، بالكسر، ... والرُّمَّةُ، بالضمِ: قِطْعَةٌ من حَبْلٍ، ويُكْسَرُ، وبه سُمِّي ذو الرُّمَّةِ". والفيروزبادي لإجماله جاء غامض العبارة؛ فلعله أراد أنّ اللفظ (الرمة) يضم ويكسر على اختلاف في المعنى، ولا يعني أن قطعة الحبل يقال لها رُمّة بالضم ورِمّة بالكسر، والدليل أنه يقول بعد ذلك: "وبالكسر. العِظامُ البالِيَةُ، والنَّمْلَةُ ذاتُ الجَناحَيْنِ، والأَرَضَةُ". على أن من اللغويين من صرّح بأن لقبه بضم الراء قال الرازي في (مختار الصحاح): "والرُّمّة بالضم قِطْعة من الحَبْل بالِيَة والجمع رُمَم ورِمام وبها سُمِّي ذُو الرُّمَّة". ومما يؤكد أنه بضم الراء أن الروايات التي تعلل تلقبه بهذا اللقب كلها تنتهي إلى بقية الحبل، ومنها ما أورده صاحب (الأغاني): أنه استسقى مية ماءً "فقامت فأتته بماءٍ، وكانت على كتفه رُمَّة؛ وهي قطعة من حبل، فقالت: اشرب يا ذا الرُّمَّة؛ فلقب بذلك...وقال ابن حبيب: لقب ذا الرُّمَّة لقوله : (أشعث باقي رُمَّةِ التقليد)
وقيل: بل كان يصيبه في صغره فزعٌ، فكتبت له تميمة، فعلقها بحبل، فلقب بذلك ذا الرُّمَّة". وجاء أيضًا:" أن أم ذي الرمة جاءت إلى الحصين بن عبدة بن نعيم العدوي... فقالت له: يا أبا الخليل؛ إن ابني هذا يروع بالليل، فاكتب لي معاذةً أعلقها على عنقه ... ثم إنها مرت مع ابنها لبعض حوائجها بالحصين وهو جالس في ملأ من أصحابه ومواليه، فدنت منه، فسلمت عليه، وقالت: يا أبا الخليل، ألا تسمع قول غيلان وشعره؟ قال: بلى. فتقدم فأنشده، وكانت المعاذة مشدودةً على يساره في حبل أسود، فقال الحصين: أحسن ذو الرُّمَّة؛ فغلبت عليه". وأما في اللهجة اليوم فلا يستعمل إلا الرِّمة بالكسر وتعني البقية الهالكة يقولون دعاء: "جِعِلْ ما لُه رِمِّه"، وضبط السويداء في (فصيح العامي في شمال نجد) الرِّمة بالكسر وفسرها بالجيفة، فمعنى الدعاء: أهلكه الله حتى لا تبقي له جيفة أو بقية. وجاء في (كلمات قضت) للعبودي:"يقال للعاجز الكسلان: فلان (رِمّه) إذا كان لا ينتفع به بعمل. وأصل ذلك أن الرمة عندهم هي جثة الميت، وبخاصة إذا مضى عليها وقت". والذي ننتهي إليه أنَّ لقب غيلان بضم الراء لا بكسرها.
ــــــــــ
المجلة الثقافية (صحيفة الجزيرة) الإثنين 11 ,صفر 1429ﻫ،العدد 234.

*لا...أحبك



هذا عنوان ديوان صغير للشاعر الشاب عبدالمحسن بن سليمان الحقيل، وهو أيضًا عنوان قصيدة في الديوان جعله الشاعر عنوانًا للديوان، وهي طريقة متبعة في بعض المجموعات الشعرية والقصصية، والديوان كله تعبير عن عواطف الشاعر المتأججة ولذلك طغت الجمل الإنشائية على قصائده فهي مليئة بأدوات النهي والاستفهام وأفعال الأمر، وللشاعر طريقة لطيفة في تصوير أحاسيسه وقدرة على تأكيد المعنى بما يشبه أضدادها، يقع هذا في قصائد متقابله مثل (نعم أحبك) و(لا...أحبك) ويقع في داخل القصيدة نفسها ففي قصيدة (خدوش) يفتتح بقوله (لا ترجعي) وتتابع الأبيات بعد ذلك وكلها نداء غير صريح برجاء العودة حتى يصل إلى النهاية فيصرح بها (فلترجعي).
استوقفتني (لا) في عنوان الديوان والقصيدة؛ وذلك أنَّ من استعمال (لا) في العربية أنها تستعمل حرف نفي يدخل على الأفعال وعلى الأسماء، وهو جزء من الجملة التي تليه، ولشدة اتصاله بما بعده لا يمنع حرف الجر من المجرور كما في قول شاعرنا (ص22):"أوَ ترجعين كما رحلت بلا خدوش". وتستعمل(لا) حرف جواب؛ فيؤلف جملة منقطعة تركيبيًّا عن الجملة التي تليه، ويجب في الكتابة أن تفصل (لا) عما بعدها بفاصلة. ولذلك قد يلبس الأمر في النطق إذا جاء حرف الجواب (لا) وبعده جملة مثبتة، فقد يظن السامع أن المتكلم ينفي ولا يثبت، وقد لا يظن ذلك ولكن الكلام قد يتضمن ما ظاهره القبح، وقد روي في التراث ما يصور هذا بجلاء، جاء في(البيان والتبيين) للجاحظ:"مرّ رجلٌ بأبي بكر ومعه ثوبٌ، فقال: أتبيع الثوب؟ فقال: لا عافاك اللَّه، فقال أبو بكر رضي اللّه عنه: لقد عُلِّمتم لو كنتم تعلمون، قل: لا وعافاك اللَّه"، فالواو فصلت بين (لا) والفعل فلم تنفه. وجاء في ثمرات الأوراق لابن حجة الأموي: "وبعضهم يرى أنَّ الواو تزاد بعد (لا) النافية في الجواب إذا قيل هل فعلت كذا وكذا فيقول لا وعافاك الله. قال أبو الفرج بن الجوزي: روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لرجل: أكان كذا وكذا، فقال: لا أطال الله بقاءك، فقال الإمام عمر رضي الله عنه: قد عُلمتم فلم تتعلموا، هلا قلت: لا وعافاك الله... وقول يحيى بن أكثم للمأمون، وقد سأله عن أمر، فقال: لا وأيّد الله أمير المؤمنين. حكي أن الصاحب بن عباد حين سمع هذه الحكاية قال والله لهذه الواو هنا أحسن من واوات الأصداغ في خدود الملاح". وقد يلبس الأمر على بعض النحويين كما في استشهادهم بقول الشاعر على تكرار الحرف (لا) للتأكيد:
لا لا أبوحُ بحبِ بثنةَ إنَّها *** أخذتْ عليَّ مواثقًا وعهودا
وليس عندي أنه من التكرار؛ لأن (لا) الأولى حرف جواب؛ كأنه سئل: أتبوح بحب بثنة؟ فقال: لا. وأمّا الآخرة فهي (لا) النافية، وعليه يجب الفصل بينهما في الرسم بفاصلة، وفي الإنشاد بسكتة. وأما شاعرنا فأجاد بفصله بثلاث نقط في العنوان تعبر عن صمت أو كلام محذوف، وأجاد بوصله في داخل القصيدة وصولا إلى نهايتها التي جعلها فراغًا بين هلالي تحديد ليفهم تأكيد الحب لا نفيه.
ــــــــــ
المجلة الثقافية (صحيفة الجزيرة)، الإثنين 4، صفر 1429ﻫ، العدد 233.

*كعند زيد نمِرة


ليست النمرة التي عند زيد أنثى النمر؛ بل هي كساء مخطط يلبسه الأعراب، وليست المشكلة هنا بل في المبتدأ؛ فالنحويون يرون أن (نمرة) وهي النكرة مبتدأ مؤخر وجوبًا و(عند زيدٍ) خبر مقدم وجوبًا أو هو متعلق بالخبر المحذوف، والأصل (نمرة عند زيد) وإنما وجب تقديم الخبر لأن تأخيره –حسب سيبويه- يجعله يلتبس بالنعت، فالسامع سينتظر الخبر (نمرة عند زيدٍ ...!) فما شأن النمرة التي عند زيد؟ ولكن دعونا نتأمل في التركيب، فالظرف متعلق بمحذوف وجوبًا؛ فالتقدير (كائنٌ عند زيد نمرة)، أفلا يجعله هذا أخص (أي أقل تنكيرًا) من (نمرة)؟ أفلا يستحق بهذا أن يكون هو المبتدأ لكونه عاملا؟ وعمل النكرة هو المسوغ الخامس من مسوغات الابتداء عند ابن عقيل(1: 218) "رغبة في الخير خير"، وقياسًا عليه (كائن عند زيد نمرة)، يمكن أن نقول إذن إن نمرة هي الخبر، وهذا أمر يعضده المعنى؛ لأن الفائدة التي محلها الخبر إنما هي في نمرة، فنحن نعرف زيدًا ونجهل ما عنده والجملة حملت لنا الخبر عن الكائن عند زيد وهو نمرة.
ولبعض النحويين قول آخر وهو أن (زيدٍ) المجرور هو المبتدأ من حيث المعنى؛ فهذا السهيلي يقول في (نتائج الفكر،409): "وهو وإن كان [الاسم المعرفة المجرور] خبرًا في اللفظ فهو المخبَر عنه معنى؛ لأن الخبر إذا كان مقدمًا ومعرفةً فإن كان في اللفظ خبرَ المبتدأ فإنه في المعنى مخبرٌ عنه؛ لأن التعريف والتقديم يجرّان إليه ذلك المعنى، فكأنك قلت (على زيدٍ دينٌ) إنما قلت (زيدٌ مديان)، وإذا قلت: (في الدار امرأة) إنما أردت: (الدار فيها امرأة). فلذلك حسن الإخبار عن النكرة ههنا في اللفظ، لأنه ليس خبرًا عنها في الحقيقة... فكم من مجرور في اللفظ مخبر عنه في الحقيقة". وقول السهيلي قد يعني أن الجملة (في الدار امرأة) جملة متحولة عن أصل أعمق هو الأصل المتعلق بالمعنى (الدار في الدار امرأة)؛ ولكن الاستعمال لا يجيز تكرار الظاهر، فكان الخيار بين طريقتين إما حذف الأولى (... في الدار امرأة) أو حذف الثانية وجعل ضمير في موضعها لأنه لابد للجار من مجرور (الدار فيها امرأة).
وعلى الرغم من وضوح قضية المعنى يتأثر هذا المبتدأ اللفظي بما يتأثر به المبتدأ اللفظي المعنويّ، ونعني بذلك النواسخ الحرفية؛ إذ تنصبه (إنَّ) كما في قوله تعالى ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ﴾[البقرة:248]، وقوله تعالى ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ﴾ [آل عمران:13]. وكان على النحويين أن يختاروا اللفظ أو المعنى فاختاروا اللفظ؛ لأنه يحقق لهم اطراد قواعدهم، ولو اختاروا المعنى لتخلوا عن وجوب نصب (إنَّ) للمبتدأ، ولقالوا إنها قد تنصب الخبر إن لم تجد المبتدأ كما أن الفعل يرفع المفعول به فيكون نائبًا عن الفاعل حين يقتضي المعنى حذف الفاعل، فيقال (أُكرِمَ عمرٌو). وهم بحاجة إلى القول مع السهيلي إن المبتدأ قد يأتي مجرورًا، وهم يعربون الاسم بعد (ربَّ) مبتدأً وإن كان مجرورًا، كما في قول امرئ القيس:
أَلا رُبَّ يَومٍ لَكَ مِنهُنَّ صالِحٌ وَلا سِيَّما يَومٍ بِدارَةِ جُلجُلِ
ــــــــــ
المجلة الثقافية (صحيفة الجزيرة) الإثنين 27 ,محرم 1429ﻫ،العدد 232.

*الضاد صورة من الظاء


يطلق العرب على لغتهم مفتخرين لقب لغة الضاد، وبهذا تغنى شعراؤهم منذ المتنبي الذي قال:
وَبِهِم فَخرُ كُلِّ مَن نَطَقَ الضا دَ وَعَوذُ الجاني وَغَوثُ الطَريدِ
ولكن هذا الحرف من العربية على الرغم من احتفاء الناس به هو من أقل الحروف استعمالاً في ألفاظها، ومن أثقلها على اللسان، ولم يستطع أحد المحافظة على نطقه كما وصفه القدماء بل اختلط أداؤه بأداء صوت آخر هو الظاء. ولعل الاحتفاء به مردود إلى أمرين أحدهما ارتباط الضاد بفصاحة الرسول r فروي أنه قال: (أنا أفصح من نطق بالضاد)، والأمر الآخر توهم القول بتفرد العربية بالضاد. وأما أهل الحديث فينكرون هذا القول فيجمعون على أنه موضوع، وأما الأمر الثاني فالخليل أكد في موضعين من معجم العين على أن الظاء هي الخاصة بلغة العرب،وابن فارس يقول إن الظاء والحاء للعرب، واختلف القدماء في وصف الضاد فالخليل وصفها بأنها تخرج في شجر الفم أي وسطه وأما سيبويه فغاية ما نفهمه من وصفه أنه صوت مطبق يصاحبه اقترابُ اللسان نحو الأضراس من جهة الفم اليسرى أو اليمنى. والذي نميل إليه أن الجانبية أو الشدقية صفة لها. والأمر الذي يكاد يتفق عليه اللغويون هو اختلاط الصوتين الضاد والظاء، والمحدثون أشاروا إلى هذا، ولكنهم يشيرون إلى صورتين صوتيتين للضاد إحداهما وقفية كالدال والأخرى غير وقفية وهي المطابِقة للظاء، وما زلنا في البلاد النجدية وما جاورها لا نسمع غير الظاء، فكل ما يكتب بالضاد ينطق ظاء، ولم تعرف الضاد الوقفية في نجد إلا بعد توافد القراء من مصر والشام ونشرهم لطريقتهم في أداء الضاد، ومع ذلك ظل التمييز بين الصوتين غائبًا وآية ذلك تظهر في تدوين أسماء الناس (الأعلام). وأما الضاد التي وصفها سيبويه، وألح المجودون على وجوب إتقان أدائها فهي في نظر الدارسين المحدثين كما هي في نظر القدماء من نحاة ومجودين قريبة من الظاء. ولم يسلم من الخلط بين الضاد والظاء قراء القرآن حتى رأينا علماء القراءات يؤكدون على وجوب الفصل بينهما، بل إن أمر اختلاط الضاد بالظاء يُرد في بعض الروايات إلى عهد الصحابة؛ والذي نريد الانتهاء إليه هو أنه ما كان لهذين الصوتين أن يختلطا لو أن لكل منهما مخرجه المباين لمخرج الآخر وهذا مؤشر قوي إلى أن الضاد في حقيقتها ظاء مع صفة إضافية هي الجانبية فإذا فقدت هذه الصفة عادت إلى أصلها فاختلطت بذلك الأصل. وقال ابن زياد الأعرابي اللغوي المشهور (توفي سنة 231 ﻫ) إنه يجوز عند العرب أن يعاقبوا بين الضاد والظاء؛ وجاء في كتاب (بغية المرتاد لتصحيح الضاد) للمقدسي (1004ﻫ) أن من أفاضل الناس في القاهرة من ينطق الضاد ممزوجة بالدال المفخمة والطاء المهملة، وينكرون على من ينطقها قريبة من الظاء بحيث يتوهم بعضهم أنها هي. وذكر المقدسي اثني عشر دليلاً على أن اللفظ بالضاد كالظاء هو المقبول، وننتهي إلى أن الضاد ليست سوى الظاء ولكنها رسمت برسم يختلف عن الظاء أي هما صوت واحد رسم برسمين (ظ/ض).
ــــــــــ
المجلة الثقافية (صحيفة الجزيرة)، الإثنين 20 ,محرم 1429ﻫ،العدد 231.

*البنية والميزان الصرفيان


يجد طلاب العربية بعض الارتباك عند محاولة وزن الألفاظ وزنًا صرفيًّا، وهم معذورون في ذلك؛ لأن الصرفيين أنفسهم وقعوا في خطأ جسيم وهو الاعتماد على الكتابة في التحليل الصرفي، وكان عليهم أن يعتموا على اللفظ. لا يجد الطالب مشكلة في وزن فعل مثل (ذَهَبَ) فهو على وزن (فَعَلَ) والأمر لا يعدو استبدال الفاء بجذر الفعل الأول والعين بجذر الفعل الثاني واللام بجذر الفعل الثالث لتحصل لنا بهذا صورة للفعل مجردة من المعنى المعجمي لأن الهدف قياس اللفظ مجردًا من المعنى. ويجد الطالب مشكلة عند وزنه لفعل مثل (عاد) لأن هيئته مختلفة عن هيئة الفعل السابق، وقد يقول بعفوية وتلقائية إن الوزن هو (فال)؛ ولكن الصرفيين يرون هذا خطأ ويرون وزن(عاد) هو (فَعَلَ)، والعلة عندهم أن (عاد) في الأصل والتقدير (عَوَدَ) أي هو ثلاثي مثل (ذهب) فميزانه كميزانه، وهم يتوهمون أن الفعل (عاد) لم تحذف (عينه) أي الواو بل قلبت إلى ألف فهي موجودة في هيئة أخرى، ثم يحتجون بأن الميزان لا علة فيه فالعين منه لا يصيبها الاعتلال كالواو من (عاد). وما يذهب إليه الصرفيون غير صحيح فالواو من (عاد) قد حذفت مع حركتها، وما الألف إلا مطل لحركة الفاء، وعليه فالميزان الصرفي الصحيح عندي هو (فال) كما يتبادر بعفوية للطالب. وأما (فَعَلَ) فهي في الحقيقة البنية الصرفية للفعل (عاد) أي الهيئة الافتراضية الأصلية له قبل تغيره، وبيان ذلك أن كل الأفعال الثلاثية لا تخرج عن ثلاثة أبنية هي (فَعَلَ) و(فَعُلَ) و(فَعِلَ)، وأما الميزان الصرفي فهو مطابق لأصوات الفعل المستعملة، وقد يطابق الميزان الصرفي البنية الصرفية، فالفعل (فَرِحَ) يطابق ميزانه الصرفي بنيته الصرفية فكلاهما (فَعِلَ) أما الفعل (خاف) فبنيته الصرفية (فَعِلَ) وأما وزنه الصرفي فهو (فَالَ). وتظهر المشكلة جلية في ألفاظ ليس التغير فيها من قبيل تحويل الواو إلى ألف قد يسوغه تقارب العلل، من هذا ما يقع في الأسماء مثل (آبار) جمع (بئر) له بناء صرفي هو (أَفْعَال) مثل (أسراب) جمع (سرب)، ولكن النحويين يزنونه على (أعفال) لأنهم يرون الهمزة تحولت إلى ألف وهو ميزان بعيد بلفظه عن (آبار)، ولذلك فالصواب عندي أن ميزانه: (آفال)، وقد يحتج بأن هذا الميزان لا يبين أن العين تقدمت على الفاء، وهذا غير صحيح؛ لأن وجود الألف دليل؛ إذ إن العين تقدمت وحذفت لمجاورتها مثلها صوتًا ومطلت فتحة الهمزة تعويضًا. وما نذهب إليه ليس ابتداعًا نبتدعه مع جواز ذلك، بل هو اتباع لعبدالقاهر الجرجاني الذي يجيز أن يوزن (كِساء) على فِعال أو فِعاء (كتاب المفتاح في الصرف، ص28)، ونقل عنه الرضي في شرحه للشافية (1: 18)، "وقال عبدالقاهر في المبدل عن الحرف الأصلي: يجوز أن يعبر عنه بالبدل، فيقال في (قال): إنه على وزن (فَالَ)ا.ﻫ.". وتظهر المشكلة في اختلافهم في وزن فعل مثل (اضطرب) فابن الحاجب يزنه على (افتعل) وأما الرضي في شرحه فيرد هذا الوزن، قال: "وهذا مما لا يسلّم، بل تقول:اضطرب على وزن افْطَعَلَ" (شرح الشافية،1: 18). ويزول الخلاف إذا قلنا إن ابن الحاجب يذكر بنية الفعل (افْتَعَلَ)، مثل الأفعال:اقترب، واحترم، وانتصر، وأما الرضي فيذكر الميزان (افطعل).
ــــــــــ
المجلة الثقافية (صحيفة الجزيرة)،الإثنين 13 ,محرم 1429ﻫ،العدد 230.

*قوه



يستعمل عامة أهل نجد اسم الفعل (قوه) للدعوة إلى الذهاب بمعنى: هيّا نذهب، فهو أمر صادر من المتحدث للمخاطب ليصاحبه في الذهاب لا أن يذهب وحده. والدليل على أن هذا اللفظ اسم فعل أنه جامد فهو بمعنى الصيغة الأمرية وحدها أي ما يقابل فعل الأمر لا الفعل الماضي ولا الفعل المضارع. والدليل على أنه اسم فعل وليس بفعل أمر أنه لا يدخل الجدول الإسنادي فهذه الصيغة تستعمل مع المفرد وغير المفرد فتقول: قوه يا زيد، وقوه يا جماعه، وتستعمل مع المذكر والمؤنث: قوه يا ندى. ويظن بعض الناس أن اسم الفعل هذا دخيل على العامية فيرونه من الإنجليزية (go) وليس الأمر كذلك عندي؛ لأن هذا اللفظ من الألفاظ اليومية الأساسية وليس من ألفاظ الحضارة كالمصنوعات أو عروض التجارة التي تجتلب مع ما يستورد من البلاد الأجنبية، والبيئة النجدية بيئة أكثر انغلاقًا من غيرها من البيئات العربية فالدخيل قليل فيها موازنة بالدخيل في لهجات الثغور المتصلة باستمرار بالبيئات الخارجية. ولو أن هذا الفعل دخل من الفارسية أو التركية لكان الأمر أسوغ لقرب اللغتين، أما الإنجليزية فهي بعيدة كل البعد عن وسط نجد، ولو كان اسم الفعل هذا دخيلا منها لظهر استعماله في البيئات الخليجية وغير الخليجية حيث كانت الإنجليزية ذات حضور أيام الانتداب البريطاني.
ومن أجل ذلك أرى أن هذا الاسم قد يكون مأخوذًا من (القاه) أي الطاعة(لسان العرب:قيه)، كأن الرجل يقول لصاحبه: أطع. والذي يلاحظ ملابسات استعمال هذا اللفظ يجده يلي جملة من المطالبات كأن يعزم الرجل صاحبه أو يدعوه إلى وليمة أو يستحثه إلى مشاركته في إنجاز أمر ثم يختم بقوله: قوه، أي أجب دعوتي، أو أطع أمري، وربما اتسع في استعمال اللفظ ليستعمل لمطلق الأمر بالذهاب بصحبة المتحدث.
وقد ورد لفظ (القاه) في أشعارهم بمعنى الطاعة، قال الزَّفَيان:
ما بالُ عيْنٍ شَوْقُها اسْتَبْكاها
في رَسْـمِ دارٍ لَبِسَتْ بِلاها
تاللهِ لولا النـارُ أَن نَصْلاها
أَو يَدْعُـوَ الناسُ علينا اللهَ
لمَـا سَمِعْـنا لأَمِيرٍ قاهـا
وقالوا: ما لَه عليَّ قاهٌ أَي سُلْطانٌ. والقاهُ الجاهُ وقال أَبو عبيد: القاهُ سُرْعةُ الإجابة وحُسْنُ المُعاونة ويقال: ما لي عنْدَه جاهٌ ولا لي عليه قاهٌ أَي طاعةٌ، وقال الأَصمعي: القاهُ والأَقْهُ الطاعةُ. وقال ابن سيده والقاهُ سُرْعةُ الإجابةِ في الأَكل.
ــــــــــ
المجلة الثقافية (صحيفة الجزيرة)،الإثنين 6 ,محرم 1429ﻫ،العدد 229.

*مْحَسُوب


هذا اسم مفعول من الفعل (حسب) والاستعمال الفصيح المعروف هو بفتح الميم أوله وإسكان الفاء منه أي الحاء في هذا الاسم، ولكن هذه الطريقة استعمال لهجي قديم في بعض لهجات الجزيرة وما زال مسموعًا إلى اليوم وبخاصة على ألسنة كبار السنّ منا أما غيرهم فتأثروا باستعمال العربية الفصيحة ففتحوا الميم وسكنوا الفاء (مَحْسوب)، ومثال هذا اللفظ: مْهَبول، مْهَجوج، مْهَجور، مْعَروف، مْعَمور، مْحَفور، مْحَروث، مْخَبوز، مْخَبون، مْغَبون، مْغَسول، وليس هذا الاستعمال اللهجي ببعيد عن أصله الفصيح إذ نجد ابن جني ذكره في كتابه المحتسب(1: (84)، عند قراءة قوله تعالى ﴿حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾[البقرة:55]، وقراءة قوله تعالى ﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا﴾[طه:131]، قال:"ومن ذلك قراءة سهل بن شعيب النّهمي: (جَهَرَة) و(زَهَرَة)، كل شيء في القرآن محركًا. قال أبو الفتح: مذهب أصحابنا[البصريين] في كل شيء من هذا النحو مما فيه حرف حلقي ساكن بعد حرف مفتوح: أنه لا يحرك إلا على أنه لغة فيه، كالزَّهْرة والزهَرَة، والنَّهْر والنهَر، والشَّعْر والشعَر، فهذه لغات عندهم كالنشْر والنشَر، والحلْب والحلَب، والطَّرْد والطَّرَد. ومذهب الكوفيين فيه أنه يحرك الثاني لكونه حرفًا حلقيًّا، فيجيزون فيه الفتح وإن لم يسمعوه؛ كالبَحْر والبحَر والصَّخْر والصَّخَر. وما أرى القول من بَعدُ إلاَّ معهم، والحقَّ فيه إلاَّ في أيديهم. وذلك أنني سمعت عامة عُقَيْل تقول ذلك ولا تقف فيه سائغًا غير مستكره، حتى لسمعت الشجري يقول: أنا محَموم بفتح الحاء. وليس أحد يدعي أنّ في الكلام مَفَعول بفتح الفاء. وقال ابن منظور في المادة (نعل): "فأَما قول كثيِّر:
له نَعَلٌ لا تَطَّبِي الكَلْب رِيحُها وإِن وُضِعَتْ وَسْطَ المجَالس شُمَّت
فإِنه حرَّك حرف الحلق لانفتاح ما قبله كما قال بعضهم: يَغَدُو وهو مَحَمُوم، في يَغْدو وهو مَحْموم، وهذا لا يعدّ لغة إِنما هو مُتْبَع ما قبله، ولو سئل رجل عن وزن يَغَدُو وهو مَحَموم لم يقل إِنه يَفَعَل ولا مَفَعُول". ولأن هذا اللفظ بدأ بساكن عمدت بعض اللهجات في الجزيرة العربية وبخاصة في المنطقة الشرقية منها إلى إدخال همزة الوصل فأنت تسمع الألفاظ السابقة: امْهَبول، امْهَجوج، امْهَجور، امْعَروف، امْعَمور، امْحَفور، امْحَروث، امْخَبوز، امْخَبون، امْغَبون، امْغَسول. والملاحظ أن هذا الضرب من التغير اللغوي خاص بما فاؤه حرف حلقي حسب تحديد القدماء وهي ستة الأحرف( الهمزة والهاء، والعين والغين، والحاء والخاء)، وكل هذه الأحرف مثلنا لها أعلاه باستثناء حرف الهمزة فله معاملة مختلفة؛ لأنه يثقل بعد التسكين، ولذلك تخلصوا منه بحذفه ومطل الفتحة تعويضًا، وإن شئت التعبير بطريقة القدماء قلت سهلت الهمزة، مثال ذلك (مَأْمور) صارت: مامور، (مَأْكول) صارت:ماكول، (مَأْمون) صارت: مامون، (مَأْخوذ) صارت: ماخوذ. ولأن هذا التغير خاص بما فيه حرف حلقي نجد أن ما جاء على (مَفْعول) من سواها بقي مفتوح الميم ساكن الفاء، مثل: مَجْحود، مَلْقوف، مَرْعُوب، مَرْهون.
ــــــــــ
المجلة الثقافية (صحيفة الجزيرة) الإثنين29 ذي الحجة 1428ﻫ، العدد 228.

*عود إلى (أنّ) المفتوحة



أكرمني أخي عبد البر علواني سليمان بقراءة ما كتبته أنفي أن يكون في (أنّ) المفتوحة شيء من التوكيد(المجلة الثقافية،ع 217)، وكتب تعقيبًا رائعًا (المجلة الثقافية،ع222)، وذهب فيه إلى إقرار المألوف من قول النحويين في دلالة (أن) المفتوحة على التوكيد، ولا أشك أنّ معاندة أمر مشهور قد لا يلقى القبول لأنه يزعج الإلف والتعود، وكنت وعدت بالجواب على ما تفضل به. وكان أخي بدأ بتقريره قائلا: "ثم هناك قرائن ودلائل لغوية على إفادة (أنَّ) معنى التوكيد، ألا ترى أن قولك: (علمت أنَّ زيدًا قادم) آكد من قولك: علمت زيدًا قادمًا)". ويعلم أخي أني لا أراها كذلك وأن لو رأيت ذلك ما كتبت ما كتبت. واستدل لدلالتها على التوكيد قائلاً: "فإذا كان لا سبيل إلى اليقين القاطع فلا مجال للتوكيد بها، وذلك كما ورد في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} (10) سورة الممتحنة، لم يقل عزّ من قائل: فإن علمتم أنهن مؤمنات، لأن الإيمان أمر قلبي لا يعلمه ولا يطلع على حقيقته إلا الله، ولذا قال {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} فاكتفى بالأمارات والدلالات الظاهرة الدالة على الإيمان، ولم يؤكده". وهذا الذي ذهب إليه أخي عبد البر دليل عدميّ، إذ ترك استعمال (أنَّ) في الآية ليس دليلاً على أنّها للتوكيد. لأن التوكيد أمر اختياري ويحتاج إليه في غير المتيقن أيضًا لدفع إنكاره. ألست تقول: أعلم أنك محب للخير، والحب أمر قلبي لا يطلع على حقيقته إلا الله، أفيجب أن تقول: أعلمك محبًّا للخير. وأنت تقول: (يعجبني أنّك مؤمنٌ بالله). فهل دخلت (أنّ) لأنه ثمة سبيل لليقين القاطع. وهل تحذف من المتيقن في الجملة (يعجبني أنّك حاضرٌ بيننا الآن). واستدل قائلاً: "وقال تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} (66) سورة الأنفال. فجاء بـ(أنَّ)، لأنه علم مؤكد". فالسؤال هنا ما معنى التوكيد الذي ينسبه النحويون لـ(إنَّ) المكسورة؟ إنه توكيد اتصاف المبتدأ بالخبر والغرض منه إقناع المخاطب بذلك، وليس في الآية –عند التأمل- إقناع للمخاطب بل هو إخبار بعلم الله بالضعف وهو علم الله المؤكد في كل الأحوال، فلا فرق عندي بين (علم الله فينا ضعفًا) و(علم الله أنّ فينا ضعفًا) فالجملتان صحيحتان والعلم مؤكد فيهما معًا لأنه علم الله. ثم استدل فقال:"وقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَّسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} (22-23) سورة الأنفال. فقال: (ولو علم الله فيهم خيرًا)، أي لو علم فيهم جانبًا ضعيفًا من الخير غير محقق ولا متيقن لأسمعهم، أي أن هؤلاء ليس فيهم شيء من الخير المحتمل، ولذا لم يأت بأن. والله أعلم." وما أفهمه أنك تقصد أن الخير غير متحقق فيهم ولذلك لم يؤكد بـ(أنّ)، فما تقول في قوله تعالى{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[البقرة:103] هل الإيمان متحقق حتى يؤكد؟ ثم استدل قائلاً: "وقال على لسان يوسف لأخوته: {أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} (59) سورة يوسف، فقال أولاً: {أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} على التوكيد بأن، ثم قال و(أنا خير المنْزلين) على غير سبيل للتوكيد وذلك -والله أعلم- أنه في الحكم الأول متأكد من أنه يوفي الكيل، تأكدًا لا شك فيه، لأن هذا أمر يستطيع الجزم به بخلاف ما بعده (وأنا خير المنْزلين) فإن هذا الحكم ليس بمنزلة الحكم الأول في التحقيق واليقين فجاء به غير مؤكد، فخالف بين التعبيرين لاختلاف الحكمين". وتعلم أخي أن الفعل (ترون) بصرية هنا وبدون (أنّ) قد يكون الفعل قلبيًّا (تروني أوفي الكيل). ولا أرى فرقًا بين الأمرين فهو على ثقة من أنه يوفي الكيل وأنه خير المنْزلين، ولو كانت (أنّ) للتأكيد لأدخلها على الجملة الثانية فالقضيتان مرتبطتان في غرض إغراء إخوته ليحضروا أخاه، لأن الغرض من التأكيد إقناع المخاطب. ثم يستدل قائلا: "ومما يدل على أنها للتوكيد، أن القرآن الكريم إذا قرن الظن بها أفاد اليقين -كما يقول النحاة - فحيث اقترنت به في القرآن الكريم أفاد الظن معنى العلم واليقين. وقد جاء ذلك في كثير من الآيات. قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (45-46) سورة البقرة، وقال: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ* فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} (20-22) سورة الحاقة، فإن الظن يلحق بالعلم واليقين."، والذي يمكن أن أقوله هنا أني لا أعلم أحدًا من النحويين قال بذلك فلعل أخي عبدالبر يدلني مشكورًا على مصدر هذا. وما أجده أن الظن في استعمال العرب يدل على اليقين والشك ولذلك صنف في الأضداد، والمسألة متعلقة بالسياق فهو الذي يحدد تلك الدلالة، ولا علاقة لفتح (أن) بها. أورد الأزهري في معجم (تهذيب اللغة): مادة(ظن): "الظَنُّ يقين وشكٌّ", وقال الجوهري في معجم (الصحاح) مادة:(ظنن): "الظَنُّ معروف، وقد يوضع موضع العلم. قال دريد بن الصمَّة:
فقلت لهم ظُنُّوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ سَراتُهُم في الفارسيِّ المُسَرَّدِ
أي استيقِنوا، وإنَّما يخوِّف عدوَّه باليقين لا بالشك". ونجد في تفسير القرطبي (13: 289) قوله عند تفسير الآية {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ}[القصص:39] "أي توهموا أنه لا معاد ولا بعث". وجاء في تفسير الطبري (21: 455) "وقوله:{وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا كنتم تَعْمَلُونَ}[فصلت: 22] يقول جلّ ثناؤه: ولكن حسبتم حين ركبتم في الدنيا من معاصي الله أن الله لا يعلم كثيرًا مما تعملون من أعمالكم الخبيثة، فلذلك لم تستتروا أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم وجلودكم، فتتركوا ركوب ما حرّم الله عليكم".
يمكن التلطف ببعث ذلك في البريد (aboaws11@gmail.com)
ـــــــــ
المجلة الثقافية (صحيفة الجزيرة) الإثنين 22 ,ذو الحجة 1428ﻫ،العدد 227.

*أيهما أصح الباب الرئيس أم الباب الرئيسي



عالج أحمد مختار عمر رحمه الله هذه المسألة في كتابه عن أخطاء الإعلاميين (77-78) فذكر أنه كثر في لغتهم النسب إلى (رئيس) فيقال فكرة رئيسية، وذكر أن مصطفى جواد ومحمد العدناني حكما بخطأ هذه النسبة فالصواب عندهما القول: فكرة رئيسة؛ لأن (رئيس) صفة على (فعيل) وليس من المعروف جعل الصفة صفة نسبية؛ إذ ما يجعل صفة نسبية هو الاسم.ثم ذكر أن الأمر عرض على المجمع اللغوي فاختلفوا في أمره ولكن المجمع أصدر قرارًا بجواز استعمال مثل العضو الرئيسي بشرط أن يكون المنسوب إليه أمرًا يندرج تحته متعدد. وأورد رحمه الله دفاع فوزي الشايب عن استعمال (رئيسي) بأن النسب إلى الصفة وارد في القرآن وأقوال العرب، وأن من النحاة من أجازه، وأن القلقشندي قد استعمل (الرئيسية) في كتابه (صبح الأعشى). واكتفى أحمد مختار عمر رحمه الله بما أورده وكأنه يريد القول إنه تعبير وإن خالف المعروف فإنه سائغ وهذا موافق لصنيع المجمع. على أن الملاحظ أن استعمال (الرئيس) والمؤنث منه (الرئيسة) بدأ يشيع متابعة لبعض المصححين اللغويين موافقة لجواد والعدناني دون التفات إلى قرار المجمع أو كلام الشايب. والذي أذهب إليه أن استعمال (الرئيسي) و(الرئيسية) أصح عندي من استعمال (الرئيس، والرئيسة) على الرغم من استعمالهما في معجمي (العباب) للصاغاني، و(تاج العروس) للزَّبيدي، والعلة أن (الرئيسي) في رأيي ليس من قبيل النسبة إلى الصفة بل هو من قبيل النسبة إلى الاسم، وذلك أنها منسوبة إلى رئيس القوم أي رأسهم، وتحرير ذلك أن كلمة (رئيس) وإن كانت في الأصل صفة فهي صفة للرجل العاقل ولا توصف بها الأشياء وهي مأخوذة على أي حال من الاسم (الرأس) أو من الفعل (رَأَسَ) الذي أخذ من ذلك الاسم، والمهم أن هذه الصفة تحولت إلى الاسمية لكثرة استعمالها دون موصوفها كما تحولت الصفة (الجامع) من الوصفية إلى أن يكون اسمًا للمسجد الذي تصلى فيه الجمعة، فحين يقال جاء الرئيس لا يقصد جاء الرجل الرئيس كما تقول جاء الطويل أي الرجل الطويل، إذ الرئيس اسم لوظيفة اجتماعية. ثم إنه جرى النسب إلى هذا الاسم كما يجري النسب إلى الأسماء فيقال (رئيسيّ). ثم استعمل هذا الوصف على سبيل المجاز لكل أمر مهم كأهمية الرئيس وإن لم يندرج تحته أمور متعددة. وأمر آخر يدعونا إلى استعمال الصفة النسبية وهو أن المؤنث منها قياسي أما الصفة (رئيس) فهي صفة للمذكر خاصة وإن استعملت للأنثى استعملت بلفظها فيقال فلانة رئيس الوفد ولا يقال رئيسة. وأما (رئيسي) فمثل (مكي ومدني) تقول: رئيسية كما تقول: مكية ومدنية. ومن أجل ذلك أرى أن الرئيسيّ والرئيسيّة أصح في وصف الأشياء من الرئيس والرئيسة. فأقول قرأت الأبواب الرئيسية من الكتاب أي قرأت الأبواب المهمة.
ــــــــــ
المجلة الثقافية (صحيفة الجزيرة)، الإثنين 30 ,ذو القعدة 1428ﻫ,العدد 226.

*المتوفي أم المتوفَى



شاع بين الناس استعمال اسم الفاعل (المتوفي) للدلالة على من مات، وهم باستعمالهم اسم الفاعل يقيسون الفعل (تَوفّى) على الفعل (مات) لأنهم يرونه بمعناه فكما قالوا (الميت) من (مات) قالوا (المتوفي) من (توفَّى)، وينكر بعض المصححين هذا الاستعمال بحجة أن الموروث من الاستعمال العربي الشائع هو وصف من مات بأنه (مُتوفَّى) أي باسم المفعول لا اسم الفاعل؛ لأن الله هو الذي يتوفى الأنفس فهو المتوفِي وأما الإنسان فهو المتوفَّى. على أن استعمال الناس اليوم له ما يسوغه من الاستعمال المرويّ وله ما يسوغه من المعنى.
ذكر أحمد مختار عمر في (العربية الصحيحة، ص 35) أن هذا مما صححته القراءة القرآنية. وقال ابن جني في (المحتسب،1: 125): "ومن ذلك ما رواه أبو عبدالرحمن السُّلَمي عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام: ﴿وَالَّذِينَ يَتَوَفَّوْنَ مِنْكُم﴾[234-البقرة] بفتح الياء. قال ابن مجاهد: ولا يُقرأ بها. قال أبوالفتح: هذا الذي أنكره ابن مجاهد عندي مستقيم جائز؛ وذلك أنه على حذف المفعول، أي: والذين يَتَوَفَّون أيّامَهم أو أعمارَهم أو آجالهم". ومثله قراءة قوله تعالى﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى﴾ [الحج:5]قال السمين في (الدر المصون، 10: 356): "وقرأت فِرْقَةٌ "يَتَوَفَّى" بفتح الياء. وفيه تخريجان، أحدهما: أنَّ الفاعلَ ضميرُ الباري تعالى أي: يَتَوَفَّاهُ اللهُ تعالى، كذا قدَّره الزمخشري. والثاني: أن الفاعلَ ضميرُ (مَنْ) أي: يَتَوَفَّى أجلَه". ويذهب يوسف الصيداوي في (اللغة والناس، ص:246) إلى أن المسألة متعلقة بالمعنى المراد "إذا أردت أن تقول: إن الله قبض نفسَ فلان، فالله توفّاه، والله إذًا هو المتوفِّي والإنسان هو (المُتَوَفَّى). وأما إذا قصدت أن تقول: إن هذا الإنسان الذي قضى نَحْبَه قد استوفَى ما كتَب الله له من العُمُر في هذه الحياة، وتوفَّى المدَّة المقسومة له، فهذا الإنسان إذًا هو (المُتَوَفِّي). فالمسألة إذًا مسألة معنًى". ولست أجادل في أن المسألة مسألة معنى ولكني أجادل في كنه المعنى والمقصود به ذلك أن ما ذكره ابن جني أو السمين أو الصيداوي في نظري ليس من المعنى الذي يخطر في بال المستعمل الحديث للغة بآية أنك لو سألت أحدًا ما معنى (تَوفى الرجل) بفتح التاء لقال لك أي: مات، فالمعنى الذي يدركه المستعمل اللغة اليوم هو المعنى الوظيفي للفعل (توفى) أي الدلالة على حدوث الموت، ولست تجد المستعمل اليوم يربط (تَوفى) بمعناه المعجمي الأصلي الدال على استيفاء ما للإنسان من الحياة.
والذي ننتهي إليه أن من يستعمل الفعل المبني للمجهول (تُوفي) واسم المفعول منه (متوفَّى) هو متابع للاستعمال الموروث وأما من يستعمل الفعل المبني للمعلوم (تَوفى) قياسًا على (مات) واسم الفاعل منه (متوفِّي) فهو مصيب أيضًا لأن له من المروي ما يوافقه، وله من المعنى الوظيفي الذي أشرت إليه ما يسوغه، واللغة آخر الأمر اصطلاح بين أهلها وللمتأخر من حقّ التصرف ما للمتقدم متى التزم نظام اللغة لا يخرم منه شيئًا ولا يأتي بصدع لا يرأب.
ــــــــــ
المجلة الثقافية (صحيفة الجزيرة)، الإثنين 23 ,ذو القعدة 1428ﻫ,العدد 225.

*هل ينفصل ضمير النصب



قسم النحويون الضمائر إلى متصلة تلحق الأفعال ومنفصلة. وقسموا المنفصلة إلى ضمائر رفع وضمائر نصب. وليس في ضمائر الرفع المنفصلة إشكال عندي فهي مختلفة عن ضمائر الرفع المتصلة اختلافًا بيّنًا. أما ضمائر النصب المنفصلة فهي التي تستحق التأمل. فإن كان المقصود فصلها عن الفعل فهذا صحيح لا مراء فيه، وإن كان المقصود بها أنها ضمائر تختلف عن المتصلة فهو أمر متوقف فيه عندي وكذلك إن كان المقصود أنها منفصلة انفصالا مطلقًا كانفصال ضمائر الرفع. فضمائر النصب وإن فصلت عن الفعل فهي لا تنفك عن الاتصال؛ لأنها لا تستعمل إلا متصلة؛ ولذلك اتخذ لها ما تتصل به وهو لفظ (إيّ) فصار الضمير متصلاً به: إيّاه، إيّاها، إيّاهما، إيّاهم، إيّاهنّ، إيّاي، إيّانا، إيّاكَ، إيّاكِ، إيّاكما، إيّاكم، إيّاكنّ. ومعنى ذلك أن الضمير لم ينفصل. وقد يتصل الضمير بإلا: إلاه، إلاك.
وليس هذا القول بجديد فهو في مجمله مستفاد من قول الفراء أن (إيًّا) عماد والكاف ضمير متصل به. وعلى الرغم من وضوح قول الفراء تعددت أقوال النحويين في هذه المسألة فذهب الخليل إلى أن (إيًّا) اسم مضمر مضاف إلى ما يأتي بعده من لواحق، وقد ردّ هذا القول بأن الضمير لا يضاف. وذهب سيبويه إلى أن (إيًّا) ضمير وأما اللواحق فحروف خطاب تبين أحوال الضمير، من تكلم، وخطاب، وغَيبة. وقريب من قول الخليل قول الزجاج بأن إيًّا اسم ظاهر مبهم، ولواحقه ضمائر مجرورة بإضافته إليها. وذهب الكوفيون سوى الفراء إلى أن (إيّاك) وأمثالها بكماله اسم واحد مضمر. وقال غيرهم إنه اسم ظاهر مبهم. ولم يستفد النحويون من قول الفراء بل ردوا عليه بأن جعل (أيّ) دعامة فاسد، لأن الاسم لا يسوغ أن يكون دعامة. والحق أنه ليس بلازم عدها اسما فقد نقل المرادي تصريح صاحب رصف المباني بأن إيًّا حرف؛ لأنه لا معنى له في نفسه. وإنما معناه في غيره، كسائر الحروف. ومعناه هنا الاعتماد عليه في النطق بالمضمر المتصل. وإذن فضمير النصب لا ينفصل.
ولا أرى اتصال ضمير النصب بإلا من الشذوذ كما في قول الشاعر:
وما نبالي إذا ما كنت جارتنا ألا يجاورنا إلاك ديار
وقول الآخر:
أعوذ برب العرش من فئة بغت عليّ، فما لي عوض إلاه ناصر
وليس بوهم عندي أن يقول أبو الطيب:
ليس إلاّكَ يا عليُّ هُمامٌ سيْفُه دونَ عِرضِه مَسْلولُ
ــــــــــ
المجلة الثقافية (صحيفة الجزيرة)، الإثنين 16 ,ذو القعدة 1428ﻫ،العدد 224.

*الفرق بين تنوينين


قد يتوهم غير المدقق في اللغة أنه لا فرق بين التنوين في أكرمت زيدًا، وكسرت عصًا. والحق أن بينهما فرقًا. وجرى العرف على إطلاق مصطلح التنوين على مجموع الفتحتين وإن كانت الفتحتان في الأصل تدلان على الحركة والتنوين. وحين نتأمل الفتحتين في الجملة الأولى نجد الأولى علامة الإعراب لأن زيدًا مفعول به منصوب. وأما الفتحة الأولى في الجملة الثانية فهي حركة عين الكلمة وليست حركة إعراب لأن المقصور لا تظهر عليه الحركات بل تقدر أي تفترض افتراضًا. وقد يسأل سائل عن الألفين بعد التنوين ما شأنهما، والجواب أن الألف في (زيدًا) هو تعويض عن التنوين في حالة الوقف. أما الألف في (عصًا) فليست للتعويض من التنوين بل هي صورة لام الكلمة المحذوفة؛ وقد أبقي عليها في رسم الكلمة لأنها تعود عند الوقف وحذف التنوين. ومن أجل ذلك نجد أنهم رسموا الألف مشالة لما لامه (واو) ورسموها ياء لما لامه (ياء) مثل (فتًى). ولو كانت الألف في (فتًى) للتعويض لرسمت مشالة كألف (زيدًا). ولذلك نجد هيئة الاسم واحدة في كل أعاريبها فتقول في الرفع: هذه عصًا، وفي الجر:ضربت بعصًا، وفي النصب: كسرت عصًا. ولو كانت للتعويض ما اجتمعت مع التعريف باللام كما في (العصا) و(الفتى)؛ لأن التعريف والتنوين متعاقبان. فإذا عرفنا ذلك سهل علينا أن نفهم وجوب رسم الفتحتين في (عصًا) و(فتًى) على عين الكلمة؛ لأن إحداهما حركة العين والأخرى علامة التنوين، وتبين لنا أن من يضعهما على الألف يفصل بين العين وحركتها؛ ويوهم أن المقصور منصوب في كل أحواله لأن الفتحتين على الألف إنما تكونان للمنصوب. ولذلك كثر الخطأ عند بعض الناس في كتابة الفتحات فتراهم يضعون فتحة على العين وفتحتين على الألف (عصَاً، فتَىً) ومعنى ذلك أنه يزيد فتحة لا دلالة لها فلا هي حركة العين إذ هي مكتفية بحركتها ولا هي حركة الإعراب على اللام لأنه يتعذر تحريك لام المقصور فهي ألف. وكذلك نرى وجوب رسم التنوين قبل ألف العوض في (زيدًا) ليكون رسم التنوين مطردًا، ولأن حركة الإعراب ينبغي أن تكون على حرف الإعراب، وكما أن لام المقصور تعود بعد حذف التنوين فكذلك ألف التعويض إنما ينطق بعد حذف التنوين. وما نقترحه من أمر رسم الفتحتين قبل الألف ليس أمرًا نبتدعه بل هو أمر قاله إمام العربية الخليل بن أحمد ولا عبرة بمخالفة اليزيدي في قوله:"ولكني أنقط على الألف لأني إذا وقفت قلت عليما فصار ألفًا على الكتاب،قال: ولو كان على ما قال الخليل لكان ينبغي إذا وقف أن يقول: عليم يعني بغير ألف". وقول اليزيدي مردود لأن الخليل حين يثبت التنوين على الحرف لا يطرح الألف، ولذا حين يوقف على الميم لا تسكن والألف وراءها. ولو كان قول اليزيدي ممكنًا لكان الوقف على (سماءً) بلا ألف في اللفظ أيضًا ولكان الوقف على (خطأً) بلا ألف في اللفظ؛ ومعلوم أن الوقف عليهما إنما هو بتعويض التنوين فيهما بألف، فهي ملفوظة غير مرسومة، وإنما ترك رسم الألف لكراهة المتماثلات الخطية كما فصلنا ذلك في كتاب (الشاذليات).
ــــــــــ
الإثنين 9 ,ذو القعدة 1428ﻫ,العدد 223.

*أي هكذا خلقت



تعرب (أيٌّ) في كل أحوالها، غير أن بعض النحويين استثنوا حالاً واحدة وهي حين تكون (أيٌّ) مضافة وصدر صلتها محذوف، وعليه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا﴾[69-مريم] إذ يلاحظ أن (أيًّا) ضُمت وهي مفعول به للفعل (لننْزعنَّ) وهي مضافة إلى الضمير (هم) وصلتها الجملة الاسمية المؤلفة من مبتدأ محذوف (هو) والخبر (أشد): أيهم هو أشد. وكان حقّ (أيّ) في هذا الموضع النصب (أيَّهم) وحُكي أن هارون الأعور قرأ الآية المذكورة أعلاه بالنصب. و(أيّ) تعرب إن كانت مفردة ذكر صدر صلتها أم لم يذكر: أكرمتُ أيًّا هو أفضل/ أكرمتُ أيًّا أفضل. وتعرب إن كانت مضافة وصدر صلتها مذكور: أكرمتُ أيَّهم هو أفضل. فإن حذف صدر صلتها ضمت، ولا تضم إن دخل عليها جار لأنها معربة: مررت على أيِّهم هو أفضل/ مررت على أيِّهم أفضل.
واختلف النحويون في تفسير ضم (أيهم) الذي حذف صدر صلتها، فذهب يونس إلى أنّ الفعل (لننْزعنّ) معلق فليس له تأثير لفظي في (أيُّهم) فهي مبتدأ وأشد خبره، وأما الخليل فذهب إلى أن الفعل غير معلق ولكن الجملة بعده محكية وهذا يعني أنّ (أيُّهم) لها استقلالها الداخلي وهي مبتدأ، وأما سيبويه فذهب إلى أنها بنيت على الضم وهي في محل نصب مفعولاً به، وأما الكسائي فحين سئل عن ضمها في موضع حقها أن تنصب فيه قال: "أيٌّ هكذا خلقت". وكأن قوله هذا علة لهذه الظاهرة، وكأن بعض الظواهر اللغوية يعسر تفسيرها، ويكفي أن نصف حدوثها. ولعل هذا ما أراده بعض النحويين حين أوصى بتجنب العلل الثوالث.
ولئن جاز لنا أن نتابع الكسائي في قوله (أيٌّ هكذا خلقت) فليس لأنها ضمت حين أضيفت وحذف صدر صلتها بل لأنها خالفت نظائرها من الأسماء المبنية مثل من وما وأين ومتى وكم وكيف وأيّان وأنّى فقد كان حقها أن تبنى بناءهن ولكنها أعربت كما أعربت (كلٌّ) و(بعضٌ)، وإعراب هذه الألفاظ المبهمات إعراب لفظي وإنما الإعراب لما أضيفت إليه‘ فإذا قلت: جاء (كلُّ الرجال) فالفاعل في الحقيقة الرجال وإنما استعملت (كل) للاستغراق كأنك تقول: جاء الرجال كلهم. ومثلها: عرفتُ بعض الأمور، فالمفعول به في الحقيقة (الأمور) وإنما استعملت (بعض) لنفي إرادة الاستغراق. ومثلهما (أي) تقول: يستهويني أيُّ كتاب، فالفاعل (كتاب) وإنما استعملت (أيّ) لنفي إرادة الواحد، لأنه هناك فرقًا بين قولك: (يستهويني كتابٌ) و(يستهويني أيُّ كتابٍ) ففي الجملة الأولى أردت كتابًا واحدًا؛ ولذلك قد تسأل عن تحديده: ما هو؟ وأما في الجملة الثانية فلم ترد كتابًا واحدًا بل جنسًا من الأجناس هو جنس الكتب. ويصح أن تقول في معناها: (يستهويني الكتاب) فالمعنى يستهويني هذا الجنس من الأشياء.
ــــــــــ
الإثنين 2 ,ذو القعدة 1428ﻫ،العدد 222.

*(يا أيها) لا محل لها من الإعراب


من بين استعمالات (أيّ) أنها تستعمل لنداء الاسم المحلى بـ(أل) الدالة على الجنس كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّها النَّاسُ﴾[21-البقرة]، فلو ناديت علمًا كالحارث لحذفت (أل) ولم تتوصل لندائه بأيها، تقول: يا حارثُ. وعلى الرغم من تقرير النحويين أن (أيّها) وصلة للنداء وأن ما بعدها هو المقصود بالنداء نجدهم يعربونها منادى. وهم حينئذ يعدونها نكرة مقصودة؛ ولذا بنيت على الضم كما تبنى النكرة المقصودة عند ندائها، مثل قولك لصديقك وأنت تحاوره: يا صديقُ ، فصارت النكرة لما قصد بها فرد محدد مثل العلم، كأنك تقول: يا زيدُ. فهي من حيث اللفظ نكرة (صديق) وهي من حيث القصد معرفة لأنه يُقصد بها (زيد) الذي تخاطبه. ولكن المتأمل يحس الفرق بين النكرة المقصودة التي كالعلم والنكرة المقصودة في زعم النحويين (أيّها). والفرق من حيث الإبهام، فـ(أيها) مبهمة، هكذا وصفها سيبويه؛ ولذا قرر أنك لا تستطيع الاكتفاء بها عند النداء ولا الوقف عليها، فلا تقول: يا أيها، وتسكت، بل لابد لك من القول: يا أيها الرجلُ؛ لأن الرجل هو المقصود بالنداء. ويجعل النحويون (أيّها) المبنية على الضم في محل نصب. وقد أجاء النحويين قولهم هذا إلى الزعم بأن المقصود بالنداء (الرجل) وصف لـ(أيّ)، ولكنه واجب الضم لأنه المقصود بالنداء، ففي ضمه هذا تنبيه إلى أنه المقصود بالنداء. ولكن المازني رأى أن الضم ليس بواجب فأجاز النصب كأن تقول: يا أيها الرجلَ، والمازني حين أجاز لم يعتمد على سماع يقاس عليه بل قاس مسألة على مسألة أخرى(شرح ابن عقيل، 3: 269)، وتفسير ذلك أن المنادى المفرد متى نعت جاز في نعته الضم متابعة لضم المنادى وجاز فيه النصب متابعة لمحل المنادى، فتقول: يا زيدُ الكريمُ، بالضم متابعة لضمة (زيد) ويكون الوصف في محل نصب، أو تقول: يا زيدُ الكريمَ، متابعة لنصب زيد محلاً.
والذي أذهب إليه أن النحويين قد أخطأوا حين عدوا ( أيها) منادى وكان الأولى عندي أن يكتفوا بالقول بأنها وصلة للنداء وينبغي أن يعدوها من اللفظ الذي لا محل له من الإعراب. وقد يحتج بأنّ (أيّ) معربة اللفظ فهي ترفع وتنصب وتجر، والجواب عندي أن إعرابها ليس سوى إعراب شكلي لا أهمية له، وليس بلازم أن تحتل وظيفة الأسماء في الجملة بسبب تغير حركة آخرها، وينبغي أن يكون المعنى المقصود في الجملة مقدمًا على الناحية اللفظية، فأنت تليها ياء النداء وليس غرضك نداءها ولا معنى لندائها بل غاية ما أردت أن تتوسل بها لنداء المحلى بأل، وكأنها تركبت مع أداة النداء حتى صارت أداة النداء (يا أيها). وقد يسأل عن الضمة ما علتها والجواب أن كل معرب، عندي، الأصل فيه الضم، ويخرج عن الضم إلى الجر أو النصب لعلة، ولا حاجة لتفسير علة الضم ما دامت هي أصل حركة المعربات، ولذلك لا حاجة لتفسير رفع المبتدأ والخبر ولا الفاعل. ولما كانت (أي) في النداء وصلة لا محل لها من الإعراب عندي جاءت مضمومة على الأصل. وأما المقصود بالنداء فلا يصح أعرابه صفة لأن الصفة يجوز حذفها.
ــــــــــ
الإثنين 18 ,شوال 1428ﻫ،العدد 220.

*على الرغم من



تأتي شبه الجملة (على الرغم) مبينة حال الفاعل أو المفعول أو مبينة نوع الفعل؛ ولذلك كان من الطبيعي أن ترد متأخرة في الجملة عن صاحبها أو عاملها فما هي سوى قيد حالي. ونجد مثال هذا الاستعمال في قول الكميت:
خرجتُ خروجَ القِدحِ قدحِ ابنِ مقبلٍ على الرَّغمِ من تلكَ النَّوابحِ والمُشلِي
وفي قول منسوب للشافعي:
أيا بومةً قد عشعشتْ فوقَ هامتي على الرغمِ مني حينَ طارَ غرابُها
وقد تتقدم على صاحبها كما في قول عمر بن ربيعة:
فلم أستطعها غير أن قد بدا لنا على الرغم منها كفها والمعاصم
وربما تقدمت هذه الحال على عاملها أيضًا كما في قول الشاعر:
على الرغم من أنف المكارم والعلى غدتْ داره قفرًا ومغناه بلقعا
وفي هذه الأشعار وفي كثير من استعمال الناس نجد هذا التركيب قيدًا على الفعل. ولكنا نجد من استعمالاته اليوم ما يخالف ما ألفناه من الاستعمال كما في هذا النص:"على الرغم من الآمال المبكرة فإن الابن مثل أبيه". ولو أعدنا ترتيب الجملة لقلنا: إنّ الابن مثل أبيه على الرغم من الآمال الكبيرة. ونلاحظ أننا حذفنا الفاء فلا مكان لها من التركيب،وأما في الجملة قبل إعادة ترتيبها فهي رابطة، ولو تأملنا في شبه الجملة (على الرغم) لا نجده قد تعلق بشيء مذكور ولنفهم الجملة حسب ترتيبها لا بد لنا من تقدير محذوف فتصير الجملة هكذا: على الرغم من الآمال الكبيرة لم يتغير شيء فإن الابن مثل أبيه. ويتضح من هذا أن الفاء رابطة للتفسير. فالسياق يتحدث عن أنه لم يتغير شيء في طريقة الحكم على الرغم من الآمال الكبيرة بالديمقراطية لأن الابن كأبيه دكتاتور. ومثلها في الغرابة الجملة: "على الرغم من صعوبة ترك هذا النادي, إلا إنني أرغب في اللعب لميلانو أو مدريد". نلاحظ أن (على الرغم) لا تتعلق بشيء مذكور، و(إلا) لا نعلم ما تستثني، ولا بد من التقدير لفهم هذا التركيب، فتكون الجملة هكذا:على الرغم من صعوبة ترك هذا النادي سأتركه، وما ذلك لشيء إلا أنني أرغب في اللعب لميلانو أو مدريد. وبهذا نفهم أن (إلا) واقعة في جملة تعليلية للجملة السابقة وهي ليست للاستثناء بل للحصر مع (ما).
ــــــــــ
الإثنين 25 ,شوال 1428ﻫ،العدد 221.

كاد وأخواتها ليست ناسخة


يرى النحويون أن (كاد وأخواتها) ناسخة مثل (كان)، ولكنا نجد في تركيب الجملة اختلافًا بينًا، وهو اختلاف أشار إليه النحويون هم أنفسهم، ولكن هذا الاختلاف لم يدعهم إلى مراعاته في التصنيف، ومن هذه الاختلافات أن خبرها يكون فعلاً مضارعًا، وهذه مسألة تدعو إلى التأمل؛ ذلك أن هذا الفعل هو الحدث المركزي في الجملة، وما (كاد) سوى فعل مساعد لهذا الفعل الأساسي، مثال ذلك قولك: كاد القدرُ يغلي. فالفعل الأساسي هو الغليان وأما (كاد) فدالة على مقاربة الفعل، وأما القدر فهو الفاعل للفعلين (كاد يغلي) وقد ساغ تقديم الفاعل لأنه لا يلتبس بالمبتدأ فليس هذا موضع ابتداء، وأرى أنه يمكن القول: كاد يغلي القدر. ومن ذلك قوله تعالى:﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾[التوبة:117]، وقول ابن الدمينة:
مُستَشرِفًا مَا بهِ قَد كادَ يَخبِلُهُ وَجدٌ بِهَا مُستَهَامَ القَلبِ مُختَلَبَا
وقال الأعشى:
يَكادُ يَصرَعُها لَولا تَشَدُّدُها إِذا تَقومُ إِلى جاراتِها الكَسَلُ
ولأن الفعل الثاني هو الفعل المركزي في الجملة كان النفي له وكان الأصل أن تدخل عليه أداة النفي، كما في قول الشماخ:
وَحَلأَها حَتّى إِذا تَمَّ ظِمؤُها وَقَد كادَ لا يَبقى لَهُنَّ شُحومُ
ولكن شدّة تلازم الفعلين، حتى صارا كفعل واحد، سوغت أن تتقدم أداة النفي على الفعل الأول وهو (كاد) وإن يكن المنفي الفعل الثاني، ونجد ذلك في قوله تعالى ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ ﴾[الزخرف:52]، وقول جرير:
ما كادَ تَبلُغُ أَطلاحٌ أَضَرَّ بِها بُعدُ المَفاوِزِ بَينَ البِشرِ وَالنيرِ
وقد يحتج بأن اللام الفارقة تدخل على الفعل الثاني دخولها على الخبر كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾[الإسراء:73] وليس في ذلك حجة عندي؛ إذ هذه لام توكيد لابد من تأخيرها لكي لا تجتمع مع (إن) المؤكدة. وقد جاء اللام المؤكدة داخلة على الفعل الأول، ومثال ذلك قول الحسن بن وهب:
ماذا بقلب أخيك مذ فارقته ليكاد من شوق إليك يطير
وقول حيدر الحلّي:
ومسكتُ قلبي كي يقرَّ وإنَّه ليكادُ يلفظه الزفيرُ فيحرق
والذي ننتهي إليه أن (كاد) ليست داخلة على الجملة الاسمية المؤلفة من المبتدأ والخبر بل هي واقعة في جملة فعلية. ولذلك لا تعدّ ناسخة مثل (كان) الناقصة.
ــــــــــ
الإثنين 11 ,شوال 1428ﻫ،العدد 219.

إعراب الجملة الاستفهامية


كيف نحلل الجملة الاستفهامية تحليلاً إعرابيًّا؟ ونحن نعلم أن أدوات الاستفهام حرفان وجملة من الأسماء حسب تصنيف النحويين لها. وليس في إعراب ما دخلت عليه أحرف الاستفهام عندي إشكال لأنها لا تغير التكوين الداخلي للجملة الداخلة عليها، فأنت تقول: أزيدٌ قادمٌ، فحرف الاستفهام لا محل له من الإعراب، وأما زيدٌ فمبتدأٌ، وقادمٌ خبر. وتقول: أقدم زيدٌ، أو هل قدم زيدٌ، فحرف الاستفهام لا محل له من الإعراب، وقدم فعل ماض مبني على الفتح وزيد فاعل مرفوع.
ويظهر الإشكال عندي في إعراب الجمل الاستفهامية ذات أسماء الاستفهام، إذ يجعل النحويون لهذه الأسماء محلاً من الإعراب لأنها صنفت في دائرة الأسماء، ولم ينظروا للناحية الوظيفية التي تؤديها في الجملة تأدية الحروف لها، فعلى الرغم من بنائها بناء الحروف لم تصنف تصنيفه من حيث الإعراب. يعرب النحويون الجملة: ما عندك؟ فيعدون (ما) اسم استفهام في محل رفع مبتدأ، و(عندك) متعلق بالخبر أو في محل رفع خبر. وهذا التحليل الإعرابي شكلي بحت لا ينظر إلى المعنى الذي تؤديه الجملة بل كأنه يحول الجملة الاستفهامية إلى جملة خبرية، وهم في حقيقة الأمر يعممون نمط الجملة الخبرية البسيطة على سائر أنماط الجمل. وحجتهم أن ما يكون اسم الاستفهام سؤالا عنه يعرب بإعرابه، فإن يكن سؤالاً عن المبتدأ فهو مبتدأ وإن يكن سؤالاً عن الخبر فهو خبر. والذي أراه خروجًا من هذا الإشكال أن نحلل الجملة الاستفهامية تحليلاً مختلفًا يناسب مكوناتها، ففي الجملة السابقة نقول: (ما) اسم استفهام عن المبتدأ لا محل له من الإعراب، و(عندك) متعلق بخبر المبتدأ المجهول. ويعرب النحويون الجملة: من صديقك؟ على أن (من) في محل رفع خبر و(صديقك) مبتدأ. والذي أراه أن يعرب (من) اسم استفهام عن الخبر لا محل له من الإعراب، و(صديقك) خبر المبتدأ المجهول. ويتجلى الإشكال في إعراب هذه الجملة: من جاء؟ فعلى الرغم من أنّ (من) هو في حقيقة أمره سؤال عن فاعل الفعل بعده نجدهم يعربونه مبتدأً؛ لا لشيء سوى وجوب تصدره وتقدمه على الفعل فلا يصلح أن يكون فاعلاً لما قرروا من أحكام الفاعل التي منها وجوب تأخر الفاعل عن فعله. ومعنى ذلك أنك إذا أردت تحويل الجملة الخبرية الفعلية (جاء زيد) إلى جملة استفهامية بالسؤال عن الفاعل حولتها إلى جملة اسمية مؤلفة من مبتدأ هو اسم الاستفهام وخبره الجملة الفعلية بعده، وهذا أمر غريب كما ترى. وللخروج من هذا الإشكال أرى أن نعرب (من جاء) كالآتي: (من) اسم استفهام عن الفاعل لا محل له من الإعراب، و(جاء) فعل ماض مبني وفاعله مجهول. ولكن بعض جمل الاستفهام تتصدرها معربات كما في مثل: أيُّ رجلٍ أكرمَ زيدًا؟ أيَّ رجلٍ أكرمَ زيدٌ؟ فالجملة الأولى سؤال عن فاعل الفعل أكرم، ورفع لأنه سؤال عن الفاعل، وأما فاعل الفعل أكرمَ فهو مجهول. وفي الجملة الثانية نجد (أيَّ) نصبت لأنها سؤال عن المفعول ومفعول الفعل أكرمَ مجهول. ونحو هذا الإعراب يقال عن الجمل: صديقُ من أكرمَ زيدًا؟ وصديقَ من أكرمَ زيدٌ. والجملة الأولى سؤال عن المضاف إليه الفاعل ولذلك رفع المضاف، والجملة الثانية سؤال عن المضاف إليه المفعول به، والفاعل والمفعول في الجملتين مجهولان.
ــــــــــ
الإثنين 19 ,رمضان 1428ﻫ،العدد 218.

الاثنين، 18 فبراير 2008

ثمة فرق أساسيّ بين (إن) المكسورة و(أن) المفتوحة؛ فالأولى تكون متصدرة لجملة مستقلة؛ فتقول: إنّ زيداً كريم، وأما الثانية فتكون متصدرة لجملة غير مستقلة، بل هي جزء من جملة أخرى، وتؤلف مع جملتها مصدراً مؤولاً له محل من الإعراب؛ فقد يكون فاعلاً نحو: أعجبني أنّ زيداً كريم، أو مفعولاً نحو: عرفت أنّ زيداً كريم، والمعنى: أعجبني كرمُ زيد، وعرفت كرمَ زيد.
وعلى الرغم من هذا الفرق الأساسي نص النحويون (حسب المرادي) على أن المفتوحة تفيد التوكيد كإنّ المكسورة، ولكنه ذكر أن بعضهم استشكل ذلك. وحجتهم قوية في نظري؛ لأنهم يقولون: (لأنك لو صرحت بالمصدر المنسبك منها لم يفد توكيداً). وردّ المرادي قولهم، ولكنه لم يدل بحجة.
ويبدو أن هذا الإحساس بالفرق بين الحرفين جعلهم يختلفون في أصالة المكسورة والمفتوحة كلتيهما؛ فذهب سيبويه ومَن تابعه إلى أن المفتوحة فرع المكسورة، وقيل إن المفتوحة هي الأصل والمكسورة فرع عليها، وقيل هما أصلان. وهو ما أرجحه. وأما الذين ذهبوا إلى فرعية المفتوحة فإنما ذهبوا إلى ذلك؛ لأن المكسورة تفيد عندهم معنى واحداً، وهو التوكيد. والمفتوحة تفيد التوكيد، وتعلق ما بعدها بما قبلها؛ فكانت فرعاً. ولست أرى هذه الحجة قوية لأن المفتوحة ليس فيها عندي توكيد بل هي رابطة لجملتها بما قبلها؛ ولذلك تأتي في سياقات لا تلائم التوكيد مثل: جهلت أنك قادم، وأنكر زيد أنه كاذب. ولو أنها للتوكيد لجاز حذفها؛ لأن المؤكدات زائدة على الجملة المثبتة، تقول: زيد قادم، ثم تؤكد باللام: لزيد قادم.
واستعمال المكسورة نفسها في لغتنا اليوم قد فارق دلالة التوكيد؛ فشاع استعمالها في جمل لا تحتاج إلى توكيد؛ فإذا كان هذا هو شأن المكسورة فإن المفتوحة أبعد من التوكيد. وينبغي أن ننظر إليهما على أنهما حرفان مختلفان. وأما من يحتج بأن المفتوحة تكسر إن فصلت بجملتها عما قبلها فتقول في أعجبني أنّ زيداً قادم: إنّ زيداً قادم. وهذا القول غير لازم لأن الجملتين قبل ربط بعضهما ببعض هما: أعجبني زيد قادم؛ فلمّا أردنا أن نجعل (زيد قادم) فاعلاً للفعل (أعجب) أدخلنا (أن) للربط وتحويل الجملة إلى مصدر. ويؤيد ما أذهب إليه أنه إن جاز أن تكون الجملة المؤكدة بإن فاعلاً ومفعولاً - كما زعموا - أفلا يجوز أن تكون الجملة المثبتة غير المؤكدة فاعلاً أو مفعولاً؟ بل أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك وهو أن الجملة المؤكدة بإنّ ينبغي تجنب تغييرها، فإذا أردت جعلها مفعولاً به مثلاً قلت: عرفت إنّ زيداً قادم؛ أي: عرفت هذا الأمر؛ ولذلك قد ترد إن مكسورة ومفتوحة مع فعل واحد، ومن شواهد هذا الاستعمال قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (التوبة: 107) بكسر إنّ، وقوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) (آل عمران: 18) بفتحها. قال المرادي: (ويجوز الفتح والكسر في كل موضع، يجوز فيه تأويلها بمصدر وعدم تأويلها به).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)نشرت في المجلة الثقافية (صحيفة الجزيرة) 12 رمضان 1428

لا توكيد في أنَّ المفتوحة(*)

ثمة فرق أساسيّ بين (إن) المكسورة و(أن) المفتوحة؛ فالأولى تكون متصدرة لجملة مستقلة؛ فتقول: إنّ زيداً كريم، وأما الثانية فتكون متصدرة لجملة غير مستقلة، بل هي جزء من جملة أخرى، وتؤلف مع جملتها مصدراً مؤولاً له محل من الإعراب؛ فقد يكون فاعلاً نحو: أعجبني أنّ زيداً كريم، أو مفعولاً نحو: عرفت أنّ زيداً كريم، والمعنى: أعجبني كرمُ زيد، وعرفت كرمَ زيد.
وعلى الرغم من هذا الفرق الأساسي نص النحويون (حسب المرادي) على أن المفتوحة تفيد التوكيد كإنّ المكسورة، ولكنه ذكر أن بعضهم استشكل ذلك. وحجتهم قوية في نظري؛ لأنهم يقولون: (لأنك لو صرحت بالمصدر المنسبك منها لم يفد توكيداً). وردّ المرادي قولهم، ولكنه لم يدل بحجة.
ويبدو أن هذا الإحساس بالفرق بين الحرفين جعلهم يختلفون في أصالة المكسورة والمفتوحة كلتيهما؛ فذهب سيبويه ومَن تابعه إلى أن المفتوحة فرع المكسورة، وقيل إن المفتوحة هي الأصل والمكسورة فرع عليها، وقيل هما أصلان. وهو ما أرجحه. وأما الذين ذهبوا إلى فرعية المفتوحة فإنما ذهبوا إلى ذلك؛ لأن المكسورة تفيد عندهم معنى واحداً، وهو التوكيد. والمفتوحة تفيد التوكيد، وتعلق ما بعدها بما قبلها؛ فكانت فرعاً. ولست أرى هذه الحجة قوية لأن المفتوحة ليس فيها عندي توكيد بل هي رابطة لجملتها بما قبلها؛ ولذلك تأتي في سياقات لا تلائم التوكيد مثل: جهلت أنك قادم، وأنكر زيد أنه كاذب. ولو أنها للتوكيد لجاز حذفها؛ لأن المؤكدات زائدة على الجملة المثبتة، تقول: زيد قادم، ثم تؤكد باللام: لزيد قادم.
واستعمال المكسورة نفسها في لغتنا اليوم قد فارق دلالة التوكيد؛ فشاع استعمالها في جمل لا تحتاج إلى توكيد؛ فإذا كان هذا هو شأن المكسورة فإن المفتوحة أبعد من التوكيد. وينبغي أن ننظر إليهما على أنهما حرفان مختلفان. وأما من يحتج بأن المفتوحة تكسر إن فصلت بجملتها عما قبلها فتقول في أعجبني أنّ زيداً قادم: إنّ زيداً قادم. وهذا القول غير لازم لأن الجملتين قبل ربط بعضهما ببعض هما: أعجبني زيد قادم؛ فلمّا أردنا أن نجعل (زيد قادم) فاعلاً للفعل (أعجب) أدخلنا (أن) للربط وتحويل الجملة إلى مصدر. ويؤيد ما أذهب إليه أنه إن جاز أن تكون الجملة المؤكدة بإن فاعلاً ومفعولاً - كما زعموا - أفلا يجوز أن تكون الجملة المثبتة غير المؤكدة فاعلاً أو مفعولاً؟ بل أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك وهو أن الجملة المؤكدة بإنّ ينبغي تجنب تغييرها، فإذا أردت جعلها مفعولاً به مثلاً قلت: عرفت إنّ زيداً قادم؛ أي: عرفت هذا الأمر؛ ولذلك قد ترد إن مكسورة ومفتوحة مع فعل واحد، ومن شواهد هذا الاستعمال قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (التوبة: 107) بكسر إنّ، وقوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) (آل عمران: 18) بفتحها. قال المرادي: (ويجوز الفتح والكسر في كل موضع، يجوز فيه تأويلها بمصدر وعدم تأويلها به).

الاثنين، 11 فبراير 2008

اسم الإشارة لا محل له من الإعراب*


يدل مصطلح (الإعراب) في استعمال النحويين على معان مختلفة منها قابلية آخر اللفظ للتغير لدخول العوامل عليه،ويقابل (المعرب) في هذا المعنى (المبني) الذي لا يتغير آخره كأسماء الإشارة. ومن معاني الإعراب كون اللفظ يحتل موقعًا إعرابيًّا كالفاعلية والمفعولية ويقابل (المعرب) في هذا المعنى ما لا محل له من الإعراب كالحروف. ويدل الإعراب أيضًا على التحليل الإعرابي أي الكلام على اللفظ من حيث بناؤه أو إعرابه ومن حيث كونه ذا محل إعرابي أو بلا محل.
وأسماء الإشارة مبنية غير معربة.ولذلك لا يعد ما يظهر من تثنية أسماء الإشارة من قبيل التثنية، قال ابن جني في(علل التثنية لابن جني): "ينبغي أن تعلم أن (هذان) و(هاتان) ... إنما هي أسماءٌ موضوعةٌ للتثنية مخترعةٌ لها، وليست بتثنية الواحد على حدِّ (زيد) و(زيدان)؛ إلا أنها صيغت على صورة ما هو مثنى على الحقيقة". وأما ما يظهر من رفعها بالألف وجرها ونصبها بالياء "فالظاهر [حسب قول الأشموني] بناؤهما على الألف والياء مراعاة لصورة التثنية كيا رجلان، ولا رجلين".
وعلى الرغم من بناء هذه الألفاظ عندهم جعلوها أسماء ذات محل إعراب. وعدوها أسماء وإن كانت لا تدل معجميًّا على ذات كدلالة أسد على جنس من الحيوان ولا تدل على حدث كالقيام. ولعلهم فعلوا ذلك لأن اسم الإشارة قد يرد في الجملة من غير المشار إليه؛ ولكن ذلك عندي لا اعتبار له، لأنه لا يمكن تصور اسم إشارة بلا مشار إليه وهو وإن حذف لفظه فهو مراد بالمعنى. وقد أجاءهم عدّ الإشارة اسمًا له محل من الإعراب إلى إعراب المشار إليه إعرابًا غير مقنع، فيعربونه إما نعتًا أو بدلاً فإذا قلت:"هذا الرجل كريم" أعربوا (هذا) مبتدأ و(الرجل) نعت له أو بدل منه.وليس هذا عندي مقبولاً لأن التوابع فضلات في اللفظ والمعنى فيمكن الاستغناء عن النعت أو البدل، وليس كذلك المشار إليه لأنه مراد في المعنى تلفظ به أو ترك لفظه. ولذلك لا حاجة للاحتراز الذي ساقه الأشموني عند الكلام على أنه يشار بـ(هذا) إلى مذكر، قال: "ولو تنزيلاً نحو: ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَال هذا رَبِّي﴾[الأنعام:78]"، لأن المشار إليه المحذوف لفظًا مذكّر وهو (شيء) أي هذا الشيء ربي.
ومن أجل ما قدمته أرى أن اسم الإشارة ليس له محل من الإعراب، ففي قولنا: هذا الرجل كريم نعرب فنقول: هذا اسم إشارة لا محل له من الإعراب، والرجل مبتدأ مرفوع، وكريم خبره، وفي قولنا: جاء هذا الرجل نقول: جاء فعل ماض وهذا اسم إشارة لا محل له من الإعراب والرجل فاعل مرفوع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشرت في المجلة الثقافية، ملحق صحيفة الجزيرة، 5 رمضان 1428هـ